د. جاد الله بسام
باحث في العلوم العقلية وتفسير القرآن
الحقّ أحبّ من كل شيء، وأفضل من كل شيء، يقول أرسطو: “بين الصداقة وبين الحقّ -اللذان كلاهما عزيز على أنفسنا-نرى فرضاً علينا أن نؤثر الحقّ”([1]).
“الحصرية الدينية”، هي الفكرة الصحيحة المقبولة في الأديان التي عرفها البشر، وهي اعتقاد أن ديناً معيناً حقّ، وأن غيره باطل، فالمسلمون مثلاً يعتقدون أنه لا حقّ إلا الإسلام، وكذلك اليهود والنصارى وغيرهم يعتقد كل واحد فيهم أن دينه هو الحقّ.
في مقابل الحصرية الدينية، طرحت فكرة “التعددية الدينية” التي تحكم بصحة كل الأديان وأنه لا يجوز تفضيل واحد منها على الآخر.
يدندن بعض الناس بأنّ “الحصرية” اقتحامٌ لخصوصية الإنسان، وإزراء بمعتقدات الآخرين، فما معنى أن تدعي أنّ دينك حقّ سوى أن تحتقر أديان الآخرين وأنْ تعاديهم، هذا جانب يسير لبعض المشاغبات المسيئة لأصل قضيتنا هنا، وربما تزداد المشاغبة سوءاً إن ادعى بعضهم أن الوثوق بحقية الدين عند متدين ما قد تكون سببًا لاستباحة دماء الآخرين وأموالهم وأعراضهم، ومع أنّ هذه الدعوى مشاغبة سيئة جداً، وتعميم لممارسات خاطئة لا تمتّ للدين بصلة، فهي تلقى أذناً صاغية، بل تجد مكبرات صوتية هائلة، في دعوى عريضة للإلحاد وترك الأديان تحت وطأة الزّعم بأنّ الدين هو سبب الدّمار والحروب.
الدّين الحقّ.. لمَ؟
هل يلزمنا أن نعترف بالدّين، وإذا اعترفنا به ألا يكفينا أن نختاره اختياراً من أنفسنا، وهل لا بدّ أن يكون حقاً؟ ولماذا نزعج أنفسنا بهذه المسألة أصلاً.
نحن كمسلمين؛ نعلم أنّ القرآن ذكر دين الحقّ في أكثر من موضع، ووصّانا باتباعه والدعوة إليه، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]([2])، ونحن كعقلاء؛ نقرر أن الدّين ما هو إلا مجموعةٌ من المعارف، والدين الحق هو المطابق للواقع.
وهذا يضعنا أمام إجابة واحدة للأسئلة السابقة: إنّ عدم الاعتراف بالدين، وعدم معرفة كونه مطابقاً للحقيقة، هو جهل بالحقيقة نفسها، فنحن بين أمرين: إما علم بالحقيقة وإما جهل بها؟ ومن المتّفق عليه أن الإنسان يسعى للعلم ويبتعد عن الجهل، فنحن مسؤولون أخلاقياً ومعرفياً بأن نقرّر رأينا بخصوص “الدّين الحق”، سواء سلباً أو إيجاباً، فهذا جوابٌ على سؤال: لِمَ؟
وجدوى اتّباع الدّين الحقّ ومعرفته تكمن في إيجاد أرضية مشتركة بين الناس في عقودهم ومعاملاتهم وسياسة أمورهم وتدبير معيشتهم، وما لم يحصل اتفاق على قدر معيّن من المعارف لن يشترك الناس في شيء، ولن تحصل صداقة بين اثنين، وهذا يقودنا إلى عكس دعاوى التعددية الدينية، وذلك أنّ “الدين الحق” هو محور اتحاد للبشر واتفاقهم في كثير من الأمور، وفي “الدين الحق” أكمل صور معيشتهم وتعاونهم، وابتعادهم عن الحرب والدمار، إن الدين الحق هو المعرفة الصحيحة الجامعة للناس.
تأسيساً.. احترام الآخرين يقوم على مقولة “الدين الحق”
نؤسّس هنا دعوى واضحة مفادها أنّ الإسلام دينٌ حقٌّ مطلق، وهو في نفس الوقت يحترم أتباع الديانات الأخرى، بل قد يقدّم فرداً من أفراد دين آخر على المسلم نفسه في بعض الأحكام، مثلاً: القاضي المسلم شريح حكم على رأس الدولة الخليفة نفسه علي بن أبي طالب ليهوديّ من الرعية في خصومة بينهما([3])، وفي حكم آخر: لا بأس بعيادة المسلم لليهوديّ والنصرانيّ، فإنّ ذلك قد يكون داعياً لهم ليتحقّقوا من حقيّة الإسلام وإزالة ما في قلوبهم من عداوة له ولأهله([4])، وغير ذلك كثيرٌ مما ينفي أي عنصرية دينية قد تلصق بالإسلام وهو منها براء، ونلحظ أن جذور الاحترام لأتباع الديانات الأخرى نابتة من عمق الإسلام الذي يقضي في الخصومات والأحكام بموجب الأدلّة المطابقة للواقع التي هي بدورها تؤسس حقية الدين المطلقة، فالمسألة أخيراً راجعة إلى “الحقيقة” وليست تعصبات أو أمزجة بشرية أو نرجسيات.
فنحن لا نكتفي بكون الإسلام غير معارض لحقوق الآخر، بل نقول: إنّ حقوق الآخرين مبنية على عقيدة إسلامية، فالنبيّ محمد عليه الصلاة والسلام يقول: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»([5])، وحثّ على زيارة الجار اليهوديّ([6])، نقول: إنّ الاحترام محكوم بصيغة استدلالية نابعة من الدّين نفسه مفادها الوجوب، لأنّ الله الخالق هو من أوجب، وإذا كان ثمّة أحكام قد تخرج عن قاعدة الاحترام في وَهْمِ شخص ما، فالكلام فيها بحسب تلك الصيغة الاستدلالية ومدى مطابقتها للحقيقة.
ولقد كرّمنا بني آدم.. نصوص الإسلام تكرم العقل الموصل للمعرفة
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً} [الإسراء: 70].
هذه الآية دستورٌ صريح في تكريم الإنسان، وليس التكريم هنا عشوائياً، بل هو بسبب واضح ومحدّد، وهو صفة العقل، وغايته الوصول للمعرفة، فإنّ الحيوانات الأخرى تعيش بالغريزة لا بالمعرفة، وأجلى أنواع المعرفة هي المعرفة الدينية، لأنها تشتمل على الإدراك العام لمناحي الحياة من نظريات وعمليات وخلقيات، فالتكريم مرتبط بالإنسان لصفته العقلية والمعرفية، لا لمجرد كونه يتحرك ويحس ويأكل مثلاً.
فالمطالبة بالدّين الحقّ هي تكريم للإنسان في الحقيقة، لأنها مطالبة بالإذعان للعقل والمعرفة، وليست تضييقاً عليه، ولا أساساً للاحتراب والتنازع بين بني البشر، والنظرة للإله على أنه مجبر للإنسان قاهر لها نظرة غير سوية، وعلماء الشريعة عندما عرفوا الدين قالوا: وضع إلهي سائق لذوي العقول إلى ما فيه الخير، فأهل العقول ينساقون أي يجدون أنفسهم مطاوعين للدين الإلهي، فمقتضى ذلك أن الدين يجب أن يكون حقاً ومطابقاً للحقيقة، وهو تصريح من العلماء بأنّ الدين إن خالف العقل فليس بدين حقّ.
إذن؛ الاحترام وحبّ الآخرين ومودتهم نابعة من الدين الحقّ، بل نلاحظ أن حصرية الدين دافعة للتنمية العقلية الشاملة للوصول إلى النموذج الأكمل في المعرفة، إلى حدّ أنها لا ترضى بالتخلف عن ركب المعرفة لمجرّد التقاعس عن النّظر والتفكير، بل إلى حدّ أنها اعتبرت البشر المكرّمين في الأصل منحطّين إلى مرتبة دون مرتبة البهائم إنْ لم يوفوا بشروط تكريم بني آدم من تحصيل المعرفة الحقة والإذعان للدين القويم.
“التعددية الدينية”.. حلّ أقرب إلى السياسة منه إلى الفلسفة أو الدّين
قصّة التعدّدية الدينية بدأت سياسياً وفلسفياً في ضمن مشروعات سلام عالمية أو حكومات كبرى أو عصبة أمم، تهدف إلى وئام مشترك بين بني الإنسان، في أعقاب الصراعات الدموية التي حصلت في الغرب، وشكلت بدورها أزمة أخلاقية عارمة للعموم والخصوص.
لكن هنا سؤال جوهريّ: ما الذي يدعو الساسة إلى تحقيق وئام بين بني الإنسان أصلاً، وبعبارة أخرى: هل يبحث السياسيون وفلاسفة المدنية والسياسة عن السلام حقيقة؟ الجواب: لعلّ السّلام هدف أخير ونهائي تسبقه أهداف أخرى في الطريق لتحقيقه، وهي تتبلور في نقل الثقافة الصحيحة والفلسفة الراجحة عند أصحاب هذه المشاريع، وفرضها ولو بالقوّة على الآخرين، وما حملات الاستعمار والاستشراق وما يسمى بالتنوير إلا نوع من هذا الصراع الدائر لفرض فكر معين واعتقاد معين.
إذنْ من الذّكاء والحنكة أن ندرك أنّ المسألة مسألة اعتقادات محضة، ولو أنها تروّج تحت غطاء السّلم العالمي أو قبول الآخر أو التعددية الدينية التي هي في الحقيقة دينٌ موازٍ للأديان المشهورة.
عوامل الدعاية والادعاء في تقويض “الدين الحق”.. لا بد أن نقاوم!
تحت أثر تكرار دعاوى خاطئة تفيد بأنّ فكرة “الدين الحقّ” هي مصدر النزاع والحروب؛ نجد الدّين في قلوب الناس وبلا وعي منهم أو شعور في منزلة منخفضة جداً، وفي أضعف ترتيب، بحيث يربطه الناس بالاختلاف والشرّ، ثمّ ينهمك المتدينون في الدفاع عن أنفسهم، وفي ردّ الشبه وحلّ الإشكالات وربما استدرار عاطفة الملحد.. الخ، بيد أنّ الحقيقة تختبأ وراء ستار رقيق جداً، يحتاج منا فقط إلى تعقّل مناسب، وجرأة كافية، إن لنا أن نقول: مقولة “الدين الحقّ” سبب كبير في اتحاد الناس وحلّ النزاعات لما فيه من النظم الكاملة فكرياً ومادياً، ومائدة مستديرة واسعة للاجتماع والتصالح على “الحقيقة الواحدة” لا تشوّهها الممارسات الخاطئة.
إن “الدين الحق” هو القومية العليا، والجنسية الأجمع، والإنسانية المثلى، والحب الكامل، يقول مصطفى صبري: “أفضل الجنسيات ما يكون سبباً لتأسيس الوجدان المشترك بين أفراد الجنس، إذ بهذا الاشتراك فقط يحصل بينهم الاتحاد الحقيقي الذي هو الاتحاد الفكري”([7])، هذا أسمى غايات الدين الحق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) علم الأخلاق لأرسطوطاليس، تحقيق أحمد لطفي السيد، ص181.
([2]) ورد تركيب (الدّين الحقّ) في مواضع أخرى: [التوبة: 29]، [الفتح: 28]، [الصف: 9].
([3]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 139).
([4]) تحفة الفقهاء (3/ 344).
([5]) رواه البخاري.
([6]) سنن الترمذي، تحقيق أحمد شاكر (4/ 333).
([7]) موقف العقل والعلم والعالم للعلامة مصطفى صبري، ج4، ص332.