أشرف صيقلي
باحث متخصص في العلوم الإسلامية.
يسأل سائل:
الإيمان بالله والتصديق بالدين يستلزم منا أن نصدّق أمورا لا نراها، فما هي الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها لإثبات صحة الدين؟
نقول: قبل البحث في أي قضية، يجب علينا أن نحرر ونتفق على المعيار الذي سنستعمله في ذلك البحث، فإنا مثلا لو نجلس في غرفة ونبحث عن “عدد الكراسي في الغرفة” وأن ذلك يكون عن طريق عد الكراسي التي نراها بحواسنا.
فكذلك في البحث عن القضايا الغيبية، كوجود الله تعالى، وصحة الدين وقبل الخوض التفصيلي في ذلك، ينبغي أن نتفق على بعض الأمور المتعلقة بالإدراك الإنساني للعلوم والمعارف عموما، وبعضه متعلق بسبيلنا إلى العلم بهذا الإله.
إن كثيرا من الخلاف في المسائل يحصل بسبب عدم مناقشة هذه المقدمات والأصول، فوجب مناقشة هذه الأصول المتعقلة بـ(نظرية المعرفة) قبل الخوض فيما سيُبنى عليها، وسنتناول إن شاء الله أهم ما نحتاج إليه في هذه المباحث.
نبدأ فنقول:
أنت تدرك أشياء في ذهنك، وهناك أشياء موجودة خارج ذهنك، وأنت دائم السعي لمعرفة ذلك الواقع الخارجي ومطابقة ما يحصل في ذهنك للواقع الموجود خارج ذهنك أو عدم مطابقته. فأنت موجود، وذهنك موجود، وهناك أشياء خارج ذهنك تحاول أن تعرفها. فاقتناعك مثلا بأن (1+1) لا بد أن يساوي = (2)، يستلزم أنك مُسَلِّم بأنك موجود، وأن هذه المعلومة (1+1=2) موجودة في ذهنك، وأنها معلومة صحيحة في نفسها، ثم أنها كذلك تعبر عن الواقع بحيث لو أتيت في الواقع بتفاحة وتفاحة فإنهما يكونان اثنتين، ولو جئت برجلِ ورجل فإنهما يكونان رجلين، وهكذا.
إذا علمت هذا .. فاسأل نفسك: ما هي الطرق التي توصل إلى المعرفة؟ ما هو السبيل الذي يمكن أن أسلكه لأدرك في ذهني أشياء مطابقة للواقع؟
نقول: هناك ثلاث طرق أساسية للوصول إلى المعرفة يعتمد عليها كل البشر. هذه الطرق هي:
- الحواس الخمس
- الخبر الصادق
- العقل
فالحواس الخمس هي البصر، والسمع، والشم، واللمس، والذوق. فالبصر سبب من أسباب المعرفة يدرك به الإنسان ألوان الأشياء وأشكالها وأحجامها، والشمّ وسيلة أخرى من وسائل المعرفة يدرك الإنسان عن طريقها نوعا آخر من الإدراكات وهي روائح الأشياء، واللمس وسيلة أخرى يدرك بها الإنسان نوعا من الإدراكات كالسخونة والبرودة، والخشونة والنعومة، وما إلى ذلك.
والسبيل الثاني هو الخبر الصادق. فمن أين عرفت مثلا أن هناك بلدا تسمّى (تايلاند) وأنت لم تزرها؟
هل العقل يجزم بلزوم وجود بلد بهذا الاسم؟ الجواب: لا.
هل رأيت تايلاند بعينيك أو اختبرتها بإحدى الحواس الخمس؟ الجواب: لا.
فالحقيقة أنك عرفت بوجود بلد تسمّى تايلاند من الأخبار الصادقة.
وكذلك معرفتك بأنه كان هناك شخص يسمّى نابليون بونابارت أنت متأكد من وجوده وأنه كان قائدا لفرنسا على الرغم من أنك لم تره بعينك ولا يجزم عقلك بأنه (لابد أن يكون موجودا)، بل وصلت إلى ذلك بإخبار الناس الذين رأوه لأبنائهم ومعارفهم، ثم إخبار هؤلاء لأبنائهم ومعارفهم، وهكذا.
والعقل هو السبيل الثالث للمعرفة. فالعقل هو قوة للنفس الإنسانية بها تستعد للعلوم والادراكات، أي تتمكن من العلم والإدراك.
ثم أي قضية معرفية: إذا التفتت نفس الإنسان إليها، فإما أن يكون مجرد تصور أركانها كافيا في حكم العقل بأنها صحيحة. وما كان كذلك فهو ما يعرف: (بالبديهيات).
ومثاله معرفتنا أن: الكل أكبر من الجزء. فلو كان شيء ما متركِّبا من أجزاء، فإننا نعلم بالبداهة أن جزءه أصغر من كلِّه، لأن الكُل يحوي الجزء وزيادة. فهذا الحكم لا يحتاج إلى دليل أكثر من مجرد تصور المسألة. فمتى تصورها الإنسان حكم بإثباتها.
وكذلك استحالة اجتماع النقيضين، كأن يستحيل أن يكون الشيء موجودا وغير موجود في نفس الوقت ونفس المكان، فهذا مستحيل معلوم بالبداهة.
وإن لم يكن تصور أركان القضية المعرفية كافيا في إثباتها، فالعقل يحتاج إلى دليل أو سبب آخر ينضم إليه ويعينه في الحكم على هذه القضية
وذلك السبب: إما أن يكون من الحواس الخمس، ثم ينظر فيها العقل
أو يكون دليلا مركبا من الحواس والعقل معا: كالتجارب العلمية
أو يكون دليلا مركبا من السمع والعقل معا، وهو: الأخبار، أي عن طريق سماع أخبار منقولة، ثم ينظر العقل في هذه الأخبار وهل هي صحيحة أم خاطئة. وسنتناول في هذه المقالة الكلام عن: الحواس الخمس، والعقل.
الحواس الخمس:
أما الحواس الخمس، فهي كما ذكرنا: قنوات اتصال الإنسان بالعالم الخارجي، يعطي كل منها للإنسان تقريرا مختلفا عن جانب من جوانب هذا العالم. فالبصر يعطيه تقريرا عن الأشكال والألوان والأحجام، والسمع يعطيه تقريرا عن الأصوات، والشم يعطيه تقريرا عن الروائح، والتذوق يعطيه تقريرا عن الطعوم، واللمس يعطيه تقريرا عن البرودة والسخونة، وعن الخشونة والنعومة.
فالحواس والأخبار فهي آلات وطرق تستعملها النفس للإدراك.
فالإنسان مثلا يرى بعينه النملة صغيرة ويرى القمر صغيرا، ولكن حكمه بأن النملة في حقيقة الأمر صغيرة، وأن القمر في حقيقة الأمر كبير هو للعقل. فليس البصر إلا آلة للرؤية، والعقل هو الذي يكمِّلُ حكمه.
ونفس الكلام يقال في باقي الحواس.
وكذلك بالنظر فيما نشعر به من جوع وعطش وأحاسيس وجدانية، فالعقل هو سبب علمنا بجوعنا وعطشنا، ويكون هذا بمجرد الالتفات إلى ذلك الشعور الذي نشعر به، ثم بعد ذلك العقل يحكم على أن هل هذا الجوع بسبب خواء البطن، أو بسبب أمر آخر كمرض؟
فحكم العقل هنا على ذلك الشعور بأمور كأي شيء هو؟ وما سببه؟ ليس هو نفس الشعور الذي نجده بوجداننا.
العقل:
ولنحاول أن نشرح قليلا هذه القوة المسماة بالعقل فنقول:
الإنسان عنده قوة يرى بها الأشياء وهي البصر. فإذا رأى الشيء تبقى صورة الشيء محفورة في ذاكرته، فأنت ترى بعينيك الحصان، فإذا غاب عن عينيك فإنك قادر على استحضار صورته من ذاكرتك.
ثم إن الانسان يستطيع بعد هذا أن يقطِّع ويركب الصور المحفورة في ذهنه. فيركب مثلا صورة الحصان على جناحي الطائر فيتخيل حصانا بجناحين. فهذه صورة خيالية اخترعها الإنسان. وليس في وسع قوة الخيال هذه أن تخترع صورة بدون الاعتماد على ما في ذاكرة الإنسان من صور أولية، فلا يمكنها اختراع صورة لما لا يدركه الحس أبدا، بل ولا يمكنها اختراع صورة لـِمَا لم يدركه حس الإنسان المتخيل نفسه.
فالمواد الأولية لقوة الخيال إنما هي ما شاهده الإنسان بحواسه، ثم يقوم الإنسان بالتصرف في هذه الصور بالتفريق والتأليف.
ونحن لا نعني بالعقل هذه القوى المتخيِّلة، بل مرادنا في هذا المقام هو قوى أخرى، هو القوة التي تدرك المعاني المجردة، وتنتزع من الأمور المعاني الكلية.
فإن جميع أحكام الحس جزئية، بمعنى أنها لا يمكن أن توصلنا إلى قوانين ونظريات عامة؛ لأن الحس لا يفيد إلا أن هذه النار المعينة التي نلمسها بأدينا الآن حارة، وأما الحكم بأن كل نار في الدنيا حارّة فهو حكم عقلي وصل إليه العقل، حيث قام بتعميم ما عرفه عن طريق الحس من الإحساسات الجزئية. فقد نظر في هذه الإحساسات الجزئية، وبحث عن علة وسبب لها، ثم حكم بوجود نفس الأثر – الحرارة – كلما وجد السبب أو العلة – النار.
فالعقل ينتزع المعاني ويجرِّدها من الإحساسات الجزئية.
فالعقل الذي نتكلم عنه هو:
القوة القادرة على إدراك معنى (اللون) من غير تخيل لون مخصوص في جسم مخصوص، وإدراك معنى (الحيوانية) مجردة من غير تخيل حيوان معين، وإدراك معنى (الجسمية) المجردة من غير تخيل جسم معين. فإذا أدرك الإنسان المعنى المجرد للحيوانية فإن نفسه لا تلتفت بالضرورة إلى حيوان دون حيوان، أو إلى كونه حيوانا عاقلا كالإنسان أو حيوانا غير عاقل، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين. وإذا فكر في معنى (اللونيّة) المجردة، فإنه لا يلتفت إلى الأسود خصوصا أو الأبيض خصوصا. بل هو قادر على انتزاع (اللونية) كمعنى، من غير قيد معين، وبدون الالتفات إلى تشخص هذا المعنى ووجوده في جسم معين.
وهذا من عجيب خواص الإنسان وبديع أفعاله، فإنه إذا رأى فرساً واحدا استطاع بعقله أن ينتزع من ذلك الفرس معنى (الفرس المطلق) الذي يشترك فيه الصغير والكبير، والبعيد عنه في المكان والقريب، فيدرك (الفرسية) المجردة المطلقة ويعرف معناها، ويفرق بين هذا المعنى المجرد وبين غيره من المعاني ككبر حجم الفرس، وطول ذيله، وما إلى ذلك، مما يتصف الفرس ببعضها أو لا يتصف، وذلك لأن القدر المخصوص، واللون المخصوص في الفرس، ليس أمرا ذاتيا لمعنى “الفرس” المجرد، بل إنه أمر يعرض له في الوجود.
فالعقل هو القوة القادرة على إدراك الكليات، فترى الطفل الصغير يفرق بين الكرسي والأريكة (الكَنَبة) مع كونه لم ير كل كراسي العالم، ولا كل أرائك العالم.
وهنا لسائل أن يسأل: قد علمنا ما هو مقصودكم بالعقل ولكننا نسأل:
ما هي الأمور التي يستطيع أن يحكم بها العقل؟ وهل يمكن للعقل أن يحكم على أشياء لم يرها؟ وما هي أحكامه تلك؟
هذا هو ما سنتكلم فيه في المقالة القادمة بإذن الله تعالى.
فخلاصة ما نريد أن نقوله في هذا المقال:
أننا قبل أن نبحث في العقائد الدينية لابد أن نتفق على مصادر المعرفة. وأن أهم مصادر المعرفة التي يستند إليه الإنسان هي: الحواس الخمس، والخبر الصادق، والعقل. وأن المدرك في الحقيقة هو العقل مستعينا بالحس وبالخبر الصادق.