محمد سامي
باحث بمؤسسة طابة.
الحمد لله،
ما زال السؤال المسمى بمعضلة الشر يُحيّر المحتارين، ويشغل أذهان المخلوقين، وإن كنا قد بيننا في مبادرة سؤال أكثر من مرة أن “معضلة الشر” ليست بمعضلة حقيقة، إنما هي عدم رضا من المخلوق عن فعل الخالق. فوجود الألم والمعاناة في الكون لا يعني –عقلًا -أن الإله غير موجود. غاية الأمر أنه يعني أن أفعال الإله تأتي بما لا يريده بعض الناس. أما العقل فليس لديه ما يحكم به بأن خالق الكون يستحيل أن يفعل أمورًا لا يريدها خلقُه. لكن البشرية تعاني من المرض الذي عانى منه إبليس، وهو عدم تقبل مراد الله، والرغبة في أن تكون أفعال الخالق تابعة لأفعال المخلوق وليس العكس. هذه الحالة من رفض الحقائق لأنها لا تروق لنا سماها الفيلسوف الفرنسي رينيه غينو (هو نفسه الشيخ عبد الواحد يحيى) بالعصيان الفكري (Intellectual Sedition). وشتان بين العقل الإبليسي المريد لأن تكون الحقائق تابعة لأهوائه، وبين العقل المحمدي المنوَّر بنور الله الذي يعشق الحقيقة ولا يريد سواها فيريد أن يكون مرآة تنطبع الحقائق فيها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
وللعارفين بالله تعالى، الذين عرفوا الله فلم يروا شيئًا إلا ورأوا الله فيه، مشاهد نظروا بها إلى الآلام، فانقلبت في أعينهم لذَّات. وقد تواتر عنهم هذا المعنى من لدن الأنبياء صلوات الله وسلامه إلى المصطفين من العصر الذي نعيش فيه ممن شهدوا أسرار هذا الكون فاستأنسوا بكل ما خلقه الله خيرًا كان أو شرًا، إلى درجة أن أحد المريدين أرسل لشيخه -هو الإمام علي الحبشي- رسالة يشكو فيها من الألم الذي أضره، فأرسل الشيخ له رسالة يحضّه فيها على أن يستأنس بنعمة أنعم بها الله عليه وهي نعمة المنع، فكتب مخاطبًا النفس الإنسانية قائلًا:
يا نفس إن لم تظفري لا تجزعي * وإلى مواهب جود مولاك اهرعي
ولربما إن تأخر مطلب * في ذلك التأخير كل المطمعِ
فاستأنسي بالمَنْعِ وارْعَيِ حَقَّهُ * إنَّ الرِّضَا وَصْفُ المنيبِ الألْمَعِ
وأرسل للإمام علي الحبشي إنسان آخر يشكو له الجَوْر والظلم الذي ألمَّ بأهل بلده فخاطبه الإمام علي الحبشي قائلًا: «وليكن في بال أخي حفظه الله أن في مظاهر الاختبار بموارد الابتلاء ما لو وقف ذو البصيرة المنيرة على سره لأحب يكون مظهرًا لذلك.» فهذا الإمام هنا لم يكتف بإخبار الشخص أن عاقبة الابتلاء إلى الخير، وأن الظلم سيذهب، وأن المبتلى في الدنيا يعوضه الله في الآخرة، بل قال له أن هذا البلاء والاختبار في ذاته أمر حسن لو أدرك الإنسان حقيقته لكان هذا الابتلاء أمرًا محببًا إليه.
ويشير الإمام أحمد السرهندي إلى معنى شبيه وهو أن الآلام والمصائب وإن كان مظهرهما الشر، فحقيقتهما خير خالص، لأن هذه الآلام والمصائب تقع في عالم الأجسام، وعالم الأجسام وعالم الأرواح متنافران، فمتى حصلت للإنسان مصيبة في جسمه حصل له في روحه لذة يعوضه الله بها وترتقي بها روحه وتعرج في مدارج القرب من الله والأنس بشهوده، لكن الأمر كما قال الإمام علي الحبشي: ”طوت العلوم أسرارها، وأجنَّت الأسرار أنوارها، فذهب الفكر مع ما ورد من غير تعريج على أسبابه ولا تطلع إلى غايته.“ فالإنسان الذي ينشغل بالتخلص من شهواته ومجاهدة نفسه يصل إلى درجة من الروحانية لم يعد فيها يبالي بالألم الجسدي، لأنه مشغول باللذة الروحية التي يجدها من وراء ذلك الألم. كالرياضي الذي يعاني صعوبة التمارين والألم البدني ولا يلتفت إلى الصعوبات البدنية التي يواجهها، لتيقنه من أن هذه الآلام من ورائها لذة أكبر ستأتي حتمًا، فترجع المعضلة عند ذلك إلى معضلة اليقين: الإنسان ليس لديه يقين بأن الله سبحانه وتعالى جعل له من وراء هذه الآلام لذة.
وقد أضاف الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي إلى هذه المعاني معانٍ منها أن العارف بالله تعالى بعد أن تحقق بالعبودية، صار بالإضافة إلى كونه راضيًا، مؤثرًا لغيره على نفسه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] فيتحول هذا العارف إلى إنسان ساعٍ إلى خدمة وإسعاد كل من حوله، ويؤثر جميع مخلوقات الله على نفسه. فيؤثر على نفسه غيره من الإنس، والحيوانات، والجمادات، بل حتى المعاني التي منها الألم. فيريد هذا العارف للألم أن يخرج من العدم إلى وجود نسبي يتحقق فيه، فيأخذ هذا الألم نصيبه من الظهور، ولا يبالي هذا العارف أن ظهور هذا الألم يتسبب له في أذى، لأنه آثر بقية مخلوقات الله على نفسه طمعًا فيما عند الله، تحققًا بمعنى الحديث «الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله مَنْ أَحْسَنَ إلى عياله». فهؤلاء الناس لم يكتفوا بأن يكونوا رحمة للإنس، ولا للحيوانات، ولا للجمادات، بل كانوا رحمة للمعاني، إذ كانوا ورثة من قال سبحانه وتعالى فيه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وكانوا ممتثلين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالتخلق بأخلاق الله الذي قال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]
وأثناء كلامه حول الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» يشبه ابن عربي الرحمة والغضب بفرسين متسابقَين، الأول بطيء طويل النفس، والثاني سريع قصير النفس. فالثاني يبدأ السباق بداية قويًة توهم من لا بصيرة عنده ولا معرفة صحيحة أنه حتمًا سيفوز وأن الأول سينهزم هزيمة ساحقة. ثم يمر الوقت، ويبدأ الثاني في الفتور، ويقترب الأول منه شيئًا فشيئًا إلى أن يفوز في نهاية السباق. ومما قصد ابن عربي بهذا التشبيه أن ينبه العباد أن ظواهر الأشياء وإن كانت مؤلمة إلا أن هناك وراءها رحمة إلهية أكبر منها يدركها العارف بالله ولا يدركها الإنسان القاصر في معرفته الذي لم تتحرر روحه من سجن جسده فتشهد الأشياء على حقائقها. فالعارف يدرك هذه المعاني في هذه الحياة، وغيره لا يدركها إلا في الدار الآخرة التي هي محل انكشاف الحقائق {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] والمؤمن يثق فيما عند الله وإن لم يطلعه الله عليه.
هذا الكلام المذكور ليس تنظيرًا فارغًا، بل حقيقة عاشها الأولون ويعيشها الآخرون. فقد حكى لنا شيوخنا عن شيخهم الحبيب إبراهيم بن عقيل بن يحيى، الذي اشتد عليه المرض في أواخر عمره إلى أن صار لا يتحرك من الفراش، وقد كان المرضى يأتونه فيدعو لهم فيستجيب الله ويشفيهم. فلما سأله من حوله عن دعائه للناس وعدم دعائه لنفسه قال: إنه لا يحتاج لذلك لأنه في عين العافية وهي أن يسلَمَ قلب الإنسان من داء الاعتراض على الله. وفي موقف آخر سُئل عن صحته فقال: إنه وصل إلى حالة لا يكاد فيها يستسيغ الماء لكنه في بحبوحة من الرضا. هذا الرجل الذي أنسته معرفته بالله آلامه الحسية هو وريث رسول الله الذي بلغ به الأذى من قومه ما بلغ فخاطب ربه قائلًا: «إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي»، ووريث سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي مرض فقيل له أنهم سيستدعون الطبيب فقال إنَّ الطبيب -وهو الله عز وجل- هو الذي أمرضه.
هؤلاء أناس لم يروا في الكون إلا الله، فلم يروا إلا الخير والحق والعدل والجمال والمحبة، وصاروا مستأنسين بالله تمام الاستئناس على الدوام، ولم يضطربوا باضطراب أحوالهم ولم يزعزع ذلك في قلوبهم شيئًا لأن مرادهم الوحيد لم يغب عنهم لحظة، وهو في أعينهم كل شيء. أما نحن، فننزعج ونضطرب، ونعترض، ونفقد عقولنا إلى درجة نشك فيها في أكبر حقيقة في الكون وهي الله سبحانه وتعالى. وحالنا هذا ليس بمستغرب لأننا نعيش في عالم ليست المرجعية فيها لله ورسوله والصحابة والصالحين، ولو كانت هذه مرجعيتنا لتغيرت تصوراتنا، ولما تخبطنا هذا التخبط، ولما أدت بنا الآلام إلى الوصول إلى الدرجة الإبليسية من الجحود.