كان انطباعي – ولا يزال – عن الملاحدة أنهم من “أغبى” خلق الله إن لم يكونوا الأغبى، لا يشذ عن ذلك إلا قلة منهم عبر التاريخ، فالملحد في الغالب إنسان سطحي لا يجيد الغوص في المعاني واستخراج الدرر بل يمر على المعاني العظيمة مرور الكرام مكتفيا بما يتراءى لعقله العليل بادي الرأي دون أن يرجع البصر كرتين أو يعمل النظر برهتين، والمصيبة أن معظمهم يجمع إلى الغباء الغرور والاعتداد بذلك العقل المريض، فجمعوا حشفا وسوء كيلة وباءوا بالخسار.
أعرض هنا مثالا على هذا التعاطي السطحي المتعالي في آن من كلام كتبه أحد الملاحدة في الفيسبوك في إحدى مجموعات الحوار، قائلا:
«وهذه قصّةٌ أخرى أيضاً تُشبه كثيراً من القصّص وإن اختلفت بعض المفردات فيها ، والتي تدور حول مؤمن بالله وملحد اتفقا علي مناظرة لكي يقنعوا أهل بلد بإحدى العقيدتين، فتجمع جمع كثير من الناس في ساحة البلدة في انتظار المتناظرين ، فحضر الملحد أولاً فأنتظر صاحبه المؤمن طويلاً ولم يأتي ، فأخذ يحدث الناس عن عجز المؤمن وهروبه من المناظرة ، وفجأة ظهر المؤمن فقال له الملحد لماذا تأخرت، فقال له المؤمن: اعذرني كنت بالجانب الآخر للنهر فلم أجد مركباً ولكن بدأت الأخشاب تأتي من كلِّ اتجاه فتجمعت وصارت مركباً جميلاً جداً فركبته فوصلت الآن كما تري. فقال له الملحد: كيف لأخشابٍ أن تصير مركباً دون صانع؟ فقال له المؤمن: أنت تناقض نفسك لأنك لا تؤمن بخالق أصلاً. وكالعادة فالقصّة أو المناظرة تنتهي ـ كالعادة ـ قبل أن تبدأ بإعلان الملحد إيمانه بالله.
ولا حاجة لنا بتبيان غباء وسذاجة وسطحية الحكاية، فمثلما أنّ الملحد مطالبٌ بإيجاد مبرِّر لوجود المركب دون صانع طالما أنّه لا يعتقد بوجود موجود من غير واجد، فالمؤمن كذلك مطالبٌ بالمثل طالما أنّ الله موجود، وطالما أنّه -أي المؤمن -يعتقد أنّ لكلِّ موجودٍ واجد وإن احتج المؤمن بأنّ الله لا تسري عليه قوانين الوجود التي نعرفها لأنّنا لا ندرك ذات الله، فبالمثل نحن لم ندرك بعد كلّ الوجود حتى نستيقن من مطابقة قوانينا -من سببية وغيرها -عليه كلياً لمجرد انطباقها على ما هو معلوم منه بالنسبة لنا. فضلاً عن أن استثناء الله والزعم بأنّ قانون السببية يقف عنده قولٌ لا ينهض على البرهان، وإنّما فقط على الإنشاء (الكلام)». انتهى كلام الكاتب الملحد.
وكما هو واضح يحاول الملحد أن يقدح في البرهان المعروض في القصة والمبني على مبادئ عقلية صحيحة لا تشوبها شائبة : “كل حادث لا بد له من محدث” و “استحالة التسلسل” و “استحالة الدور” ، فكل ما كان معدوما ثم وجد لا بد له من موجِد – بكسر الجيم – أوجده على هيئته وصورته وصفاته، وهذا الموجد لا بد أن يكون “قديما واجب الوجود” بمعنى أنه لا يعقل عدمه ولم يسبق وجوده عدم حتى لا يقال من أوجده لأنه إن كان معدوما ثم وجد فلا بد له من موجِد – بكسر الجيم- وهذا الموجد كذلك لا بد له من موجد وهكذا لا إلى نهاية في الماضي وهو ما يسمى بالتسلسل ويرفضه العقل ويحكم باستحالته لأنه يعني عدم إمكان وجود العالم المحسوس وهو باطل فيكون باطلا، والاحتمال الآخر أن يكون هذا الصانع قد أوجده صانع آخر قبله وهذا الصانع الآخر أوجده نفس الصانع التالي فيكون سابقا لوجود نفسه لاحقا له فيكون مستحيلا لأنه جمع بين متناقضات وهو ما يعرف بالدور، فلما بطل كلا الاحتمالين وظهر استحالتهما لا يكون الحكم الصحيح إلا أن موجد العالم لا بد أن يكون قديما واجب الوجود لا يقبل العدم أصلا وإلا لزم المستحيل الباطل عقلا .
لكن الملحد يجهل هذا ولا يلتفت إليه، فيعترض على هذه المبادئ العقلية الصحيحة السليمة باعتراض ساقط ويتصور الغباء والسذاجة في هذه المبادئ لا في عقله، فيطالب المؤمن بتبرير – حسب استعماله الخاطئ للكلمة – وجود الله لأنه يظن المؤمن يقول “إن لكل موجود واجد” كما قال ، وهذا طبعا سوء في الفهم من قبل الملحد لأن المقول في علم الكلام لدى المسلمين ليس “كل موجود له موجد” وإنما “كل موجود حادث لا بد له من محدِث” والله تعالى “موجود قديم” لا “موجود حادث” فلا وجه أصلا لاعتراض الملحد الساقط ، إلا إن كان الملحد لا يعرف الفرق بين عموم “موجود” وخصوص “الموجود الحادث” فيكون جهلا بعلم الكلام ومصطلحاته بالإضافة إلى الغباء رغم تظاهره بمعرفة علم الكلام ونقده .
ثم يتمادى الملحد في استعراض جهله فيقول إن المؤمن لا يصح له أن يتعلل بأن الله لا تسري عليه قوانين الكون المعروفة لنا من سببية وغيره حتى يضطر إلى تفسير وجود الله لأننا أيضا يمكن أن نقول أنه لا يمتنع وجود الكون من غير صانع لأنا لما نعلم بعد كل أجزاء الكون وبالتالي لا نستطيع أن نعمم قانون السببية على كل أجزاءه لمجرد خضوع ما نعرفه من الكون له فيجوز أن يكون ما لا نعلم لا يخضع لقانون السببية ويصح تفسير نشوء الكون به من غير صانع وخالق، وهذا غاية في السقوط إذ أن هذا لا يسقط المبدأ العقلي القائل “كل حادث لا بد له من محدث” لأنه حتى وإن جوزنا التئام أجزاء الكون من أنفسها لا بإرادة وفعل الصانع فإن السؤال يبقى من أين أتت هذه الاجزاء الاولية وكيف خرجت من العدم ؟ ولو أخذنا بنموذج الانفجار الكبير لسألنا: فمن أين أتت النقطة المادية الأولى عالية الكثافة التي انفجرت ونتج عنها كل هذا الكون؟ هذا ما لا تجيبه هذه النظريات مهما حاولت ولا يجيبه العلم الحديث التجريبي وقطعا لن يجيبه ملحد جاهل وإنما يجيبه العقل المحض فقط الحاكم بأن خروج شيء من العدم إلى الوجود يستلزم مرجحا وموجدا ولا بد لاستحالة أن يخلق المعدوم نفسه !! ومن زعم غير هذا خرج عن طور العقلاء، أو إن تماهى الملحد مع الحمق أكثر وزعم قدم الأجزاء الأولية المكونة للكون وعدم خروجها من العدم أصلا قلنا له: فكيف تغير القديم وائتلف مع غيره من الأجزاء ليكون الكون والقديم لا يتغير، ومجرد تغيره وائتلافه مع غيره مخرج له من حيز الأزل إلى الاتصاف بالحدث لأن التغير لازم للحدوث ولا يعقل متغير قديم، وهذا كاف بالطبع إن كان للملحد عقل يفهم.
وبهذا ظهر ضحالة نتيجته التي وصل إليها من أن استثناء الله تعالى من لزوم الموجد لا يستند إلى برهان وإنما إنشاء – أي مشاغبات – يرمي بها علم الكلام بجهل منه وعدم معرفة بهذا العلم العظيم الشريف.
بل استثناء الله تعالى هو حكم العقل الصحيح لما أن العقل حاكم بأن الله تعالى قديم واجب الوجود، ولو فهم الملحد فقط معنى هذه الكلمات لعرف أن ليس لمقاله أدنى حظ من النظر.
والله الموفق.