س/ إذا سلمنا أن للكون سببًا أو خالقًا، ما الدليل على اتصافه بصفات الكمال التي ينسبها له المؤمنون مثل كمال القدرة والإرادة والعلم؟
ج/ هذا السؤال يأتي من شخص يسلّم بوجود خالق لهذا الكون، لكن الإشكال عنده في صفات الكمال التي يتصف بها الخالق سبحانه، خاصة صفات القدرة وإلارادة والعلم.
لذا لا بد من الاتفاق أولًا على أمرين:
أولًا: أن منشأ البحث أو التفكير في الغيبيات ليس أمرًا دينيًا بحتًا، أكثر من كونه أحد نوازع النفس الإنسانية السوية في مرحلة من مراحل تطورها الإدراكي، فمَن منا لم يفكر في هذا العالم وهذه الحياة، من أين أتت؟ وإلى أين ستصير؟ هذا النوع من التفكير مرجعه إلى طبيعة الإنسان المركبة من جسد وعقل وروح.
ثانيًا: ما دمنا سلمنا أن هذا العالم له سبب او خالق، فلا بد أن يكون هذا الخالق مغايرًا للعالم خارجًا عنه. إذ لا يمكن أن يتساوى الخالق مع المخلوق.
والعقل بعد أن يثبت قضية وجود الخالق ينتقل إلى معرفة صفاته وأسمائه، وإن كان مجال العقل في معرفة هذه الصفات والاسماء محدودًا، لكن أول ما يرد في الذهن أن هذا الخالق أحق بالكمال من غيره، وأن غيره لا يساويه في الكمال، تبعًا لقاعدة الترجيح والتفضيل والتي تنص على أنه “يجب أن يكون في العلة (الخالق) قدر ما في المعلول (المخلوق) على الأقل”. أو كما يقول الفلاسفة: كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة، والعلة أولى به، وهذا معقول، لأن ذات المخلوق نفسها أثر من آثار خالقه، فمن باب أولى أن تكون صفاته أثر من آثار خالقه.
ومن الأدلة العقلية أيضًا على اتصاف الخالق بالكمال: أن الخالق واجب الوجود بنفسه، إذ لا يصح أن يكون ممكنًا كمخلوقاته، ولا مستحيلًا فتنقلب الحقائق. وأنه لو لم يكن لهذا الخالق الكمال المطلق، لكان يعتريه النقص في صفة من صفاته، وكل نقص يفتقر الى استكمال، وطلب الاستكمال دليل الفقر والاحتياج إلى الغير، والفقر والاحتياج دليل الحدوث، والحدوث ينافي كونه واجب الوجود بنفسه، وبالتالي كون الله واجب الوجود بنفسه يستلزم كونه متصفا بالكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه.
ومن الأدلة أيضًا قياس الأولى، فما دام العقل قد انتهى إلى أن لهذا الكون خالقًا، وفي هذا الكون صفات كمال متعددة كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر وغيرها، فيجب أن يتصف الخالق بهذه الكمالات إجمالًا، وعلى وجه يليق بكونه خالقًا، لأنه لا يُعقل أن يكون هو مصدر ما نراه من هذه الكمالات، وهو خالٍ عنها ولا يتصف بها.
فالعقل يحكم حكمًا ضروريًا بثبوت هذه الصفات للخالق أولًا، وإلا كنا أمام أنوع من صفات الكمال البشري لا سبب لها ولا موجد.
نستطيع إذن أن نقول إجمالًا إنه يجب أن نثبت للخالق كل كمال مطلق يليق بذاته، وأما تفصيلًا فإنه لكونه خالقًا، يجب أن يتصف بعدة صفات، حصرها الأشاعرة في عشرين صفة، وقسموها إلى أربعة أقسام:
صفة نفسية: وهي الوجود؛ لأن وجوده هو نفس ذاته.
صفات سلبية: وهي خمس صفات، القدم والبقاء والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس والوحدانية. وتعرف هذه الصفات بأنها: عدم كذا… فالقدم مثلا هو عدم الحدوث (الوجود بعد عدم)، والبقاء هو عدم الفناء وهكذا، لذا قلنا إنها صفات عدمية، وأما قولنا سلبية فلأنها تسلب عن الخالق سبحانه كل ما لا يليق بذاته المقدسة.
صفات معاني: وهي سبع صفات، القدرة والعلم والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام النفسي. وتسمى بالصفات الذاتية؛ لأنها لا تنفك عن الذات.
صفات معنوية: وهي سبع صفات، كونه قادرًا وكونه مريدًا وكونه عالمًا وكونه حيًا وكونه سميعًا وكونه بصيرًا وكونه متكلمًا.
وسيقتصر كلامنا هنا على بعض صفات المعاني وهي، القدرة والعلم والإرادة، حسب ما ورد في كلام السائل. وقد سلك المتكلمون إلى إثبات هذه الصفات لله تعالى طريق النظر والاستدلال؛ إذ النظر عندهم واجب على كل مكلف (بالغ عاقل) للوصول إلى معرفة الله عز وجل. هذا بجانب الأدلة النقلية، لأن المذهب عند أهل السنة؛ أن نثبت للخالق سبحانه كل ما أثبته لنفسه، مع تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله. فإذا ورد نص بإثبات صفة وجب الإيمان بها، مع الاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين. فالله سبحانه وتعالى “ليس كمثله شئ” والعكس أيضا، فكل ما اتصف به المخلوق من صفات يمتنع اتصاف الخالق بها، فلا يوصف سبحانه بشئ من النقائص.
فالقدرة هي صفة أزلية قائمة بذاته تعالى يتأتى بها إيجاد الممكن وإعدامه على وفق علمه وإرادته. وهذا تعريف بالرسم لا بالحد الحقيقي، وهكذا سائر التعريفات المذكورة للصفات؛ لأنه لا يعلم كنه ذاته وصفاته – أي حقيقة ذلك – إلا هو.
فالقادر هو الذي إن شاء فعل، وإن شاء ترك. ومعناه انه يتمكن من الفعل والترك. والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي حكمته لا زائدًا عليها ولا ناقصًا عنه، ولذلك لا يصح أن يتصف بها غير الإله، ولا أحد يوصف بالقدرة من وجه، إلا ويصح أن يوصف بالعجز من غير وجه الإله، فهو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه، لذا استحق أن يكون إلهًا. فالله عز وجل قادر على إيجاد كل ما يتصور العقل السليم إيجاده، وقادر على إعدام كل ما يتصور العقل السليم إعدامه وفقًا لعلمه وإرادته.
وفي اثبات صفة القدرة للخالق سبحانه قالوا: إذا ثبت حدوث العالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، فإما أن يكون وجوده بنفسه، أو بخارج عنه. لا جائز أن يكون وجوده بنفسه، لأن الشئ لا يوجد نفسه. وإن كان بغيره، فذلك الغير إن كان غير الله تعالى فهو من العالم، فيكون حادثًا، ولا بد له من محدث، والكلام فيه كالكلام في الأول؛ فلا بد إذن من الاستناد إلى الله تعالى؛ قطعًا للتسلسل والدور الممتنع، كما يحكي سيف الدين الآمدي في أبكار الأفكار.
وكما ورد أيضًا في شرح المقاصد للسعد التفتازاني: “فإن الأصل المعوّل عليه في باب إثبات قادرية الخالق، أنه صانع قديم له صنع حادث، وصدور الحادث عن القديم إنما يتصور بطريق القدرة دون الإيجاب، وإلا فيلزم تخلف المعلول عن تمام علته، حيث وجدت في الأزل العلة دون المعلول، ولا يتم هذا إلا بعد إثبات أن شيئًا من الحوادث يستند إلى الباري ابتداء وبلا واسطة، وذلك بأن يبين أنه قديم بذاته وصفاته، وأن العالم حادث بجميع أجزائه على ما قرره المتكلمون”.
ولذلك فإن قول البعض: هل يستطيع ربك أن يخرجنى من ملكه؟ دليل على الجهل، لأنه لا يتصور العقل السليم مكانًا غير مملوك لله تعالى.
وكذلك قولهم: هل يستطيع ربك أن يخلق صخرة كبيرة لا يستطيع كسرها؟ وقولهم: هل يستطيع ربك أن يخلق إلهًا مثله؟ فذلك دليل آخر على الجهل؛ لأن الإله لا يكون مخلوقًا.
وكذلك قول من يقول: هل يستطيع ربك أن يجمع بين النقيضين؟
والجواب: أن هذا الخروج من القدرة ليس خروجًا تخصيصيًا، وإنما هو خروج تخصصي، بمعنى ان الله قادر على كل شئ، كما قال تعالى في كتابه الكريم: “إنّ الله على كل شئ قدير”، والممتنع (المستحيل) ليس بشئ، فهو خارج عن القضية أصلًا؛ إذ القدرة لا تتعلق إلا بالممكنات. لأنها لو تعلقت بالواجب لإيجاده فهو لا يكون إلا موجودًا، فيكون تعلقها به من باب تحصيل الحاصل، وكذلك لو تعلقت بالمستحيل لإيجاده فهو لا يقبل الوجود أصلًا، فيكون قلبًا للحقائق. فجميع الممكنات مقدورة لله تعالى من غير واسطة، وحدوثها ليس إلا عنه سبحانه.
فالعجز الوارد في أسئلتهم السابقة يقع في جانب قابلية القابل لا في فاعلية الفاعل. فالله سبحانه لا يوصف بعجزٍ، لكن الذي يقولونه لا يكون. فأسئلتهم هذه تشبه سؤال: هل تستطيع ان تسمع هذا اللون الابيض؟ وواضح للجميع أن السؤال نفسه غير صحيح.
وأما الإرادة: فهي صفة أزلية قائمة بذاته تعالي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه من الأمور المتقابلة. والمقصود تخصيص الله الشئ أزلًا بالصفات التي يعلم أنه يوجد عليها في الخارج. فالإرادة لا تتعلق إلا بالممكنات كالقدرة.
وهي غير الأمر الذي معناه طلب الفعل، وغير العلم؛ إذ العلم يتعلق بالواجب والممكن والمستحيل. فصفة العلم: فهي صفة أزلية قائمة بذاته تعالى متعلقة بجميع الواجبات والجائزات والمستحيلات؛ أي أنها تتعلق بجميع الموجودات على وجه الإحاطة على ما هي به من غير سبق خفاء. فالله سبحانه وتعالى يعلم الأشياء أزلًا على ما هي عليه، وكونها وُجدت في الماضي، أو موجودة في الحال، أو ستوجد في المستقبل (أطوار في المعلومات) لا توجب تغيرا في تعلق العلم، فالمتغير إنما هو صفة المعلوم لا تعلق العلم.
وهو سبحانه وتعالى يعلم ما لا نهاية له، ككمالاته، وأنفاس أهل الجنة، فيعلمها تفصيلًا، ويعلم أن لا نهاية لها، وتوقفُ التفصيل على التناهي إنما هو بحسب عقولنا، ودخل في ذلك علمه؛ فيعلم بعلمه أن له علمًا. وما علمه الله بعلمه وخصصه بإرادته أبرزه بقدرته؛ أي أوجده بها.
والدليل على وجوب العلم له تعالى أن تقول: الله فاعل فعلًا متقنًا محكمًا بالقصد والاختيار، وكل من كان كذلك يجب له العلم؛ إذ كيف له أن يخلق ذلك كله ويدبره بدون علم، فالله يجب له العلم.
فإن قيل: إن هذا الدليل إنما يفيد علمه بالجائزات (الممكنات) فقط، فما الدليل على علمه بالواجبات والمستحيلات؟
أجيب: بأن دليل ذلك دليل عدم افتقاره للمخصص؛ لأنه لو لم يعلم بالواجبات والمستحيلات، لكان محتاجًا لمن يكمله، فيحتاج للمخصص، ومن ثم يلزمه الحدوث. والله سبجانه وتعالى واجب الوجود.
وكما يقول موسى بن ميمون صاحب دلالة الحائرين: واعلم أن مع اعتقاد حدوث العالم تصير المعجزات كلها ممكنة، وتصير الشريعة ممكنة، ويسقط كل سؤال يُسأل في هذا المعنى، حتى إذا قيل لماذا أوحى الله لهذا ولم يوحِ لغيره؟ ولماذا شرّع الله بهذه الشريعة لأمة مخصوصة ولم يشرع للغير؟ ولأي شئ خصص النبي بهذه المعجزات المذكورة ولم تكن غيرها؟ وما قصد الله بهذا التشريع؟ ولأي شئ لم يجعل هذه الأمور المأمور بها والمنهي عنها في طبيعتنا، إن كان هذا غرضه؟
فجواب هذه المسائل كلها أن يقال: هكذا شاء، أو هكذا اقتضت حكمته، كما أوجد العالم حين أراد على هذه الصورة ولا نعلم إرادته في ذلك، أو وجه الحكمة في تخصيص صورته وزمانه، كذلك لا نعلم إرادته أو موجب حكمته في تخصيص كل ما تقدم السؤال عنه.
ولا يفوتنا في هذا المقام التفريق بين العلم الحضوري (القديم) والعلم الحصولي (الحادث او المكتسب)؛ لأن الكسبي عرفًا هو: العلم الحاصل عن النظر والاستدلال، فإذا أقمت دليلًا على حدوث العالم بأن قلت: العالم متغير وكل متغير حادث، ينتج العالم حادث، فالعلم بحدوث العالم حاصل عن نظر واستدلال فهو مكتسب. ولا يقال لعلم الله كسبي؛ لأنه يلزم منه قيام الحوادث بذاته تعالى، ويلزم منه أيضًا سبق الجهل في حقه تعالى وهو محال.
يقول صاحب جوهرة التوحيد:
وعِلمه، ولا يُقالُ مكتسب فاتبَع سبيلَ الحقِ واطرَحِ الرِّيَب
والرّيب جمع ريبة بمعنى الشبهة التي لم تعلم صحتها ولا فسادها، وهذا بحسب الأصل، وإلا فالقصد هنا الرد على من ينفي صفات المعاني لئلا يلزم تعدد القدماء، وهذه شبهة فاسدة؛ لأنه لا يضر إلا تعدد ذوات القدماء، لا تعدد الصفات مع اتحاد الذات.
وفي الختام نستطيع أن نقول: إن المشكلة الحقيقية تكمن في أن البعض يقيس الإله الخالق على مخلوقاته، وهذا الأمر قد اشتهر بشكلٍ لافت في الآونة الأخيرة فيما يُعرف ب”أنسنة الإله” نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجي، وسيطرة الإنسان على كثير من ظواهر الكون، فيظنّ الإنسان نفسه قادرًا على كل شئ. والحقيقة أن المخلوق المحدود بكل ما أوتي من علم وقوّة لم ولن يصل إلا إلى قشور من الحقيقة، وهذا من معاني قوله تعالى: “يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا..” (الروم:7).
يقول الإمام القشيري في شرحه لاسماء الله الحسنى: “ومن عرف أنه قادر على الكمال خشي سطوات عقوبته عند ارتكاب مخالفته، وأمَّل لطائف رحمته، وزوائد رحمته سؤاله، وحاجته لا بوسيلة طاعته، بل بابتداء كرمه ومنته”.