الدين بين التفسير العلمي وشرف الوحي

الشيخ مصطفي ثابت

الدين بين التفسير العلمي وشرف الوحي

بقلم: مصطفي ثابت

الدين من حيث هو : وضع إلهي أنزله الله للبشر بهدف تزكية نفوسهم وتعرفهم عليه، فهو يقدم نظرة كلية متعلقة بالكون والحياة والقيم، ومن هذه الحيثية يشترك الدين مع الفلسفة في أنه يقدم إجابات لأسئلة الغاية والوجود، غير أن الأجوبة التي يقدمها الدين مؤيدة بالوحي ومصانة بخبر المعصوم صل الله عليه وسلم، فأكثر ما أرّق البشر في البحث هي أسئلة المعرفة والوجود والقيم، كيف نصل للحقائق ؟ وما غاية الوجود ؟ وما هو الجمال وما هو القبح ؟ وما هو الخير والشر، وما هو الفلاح والنجاح في هذه الدنيا ؟ كانت هذه مباحث الفلسفة وقد جاءت الأديان فأجابت عليها، ثم لما بدأت الحداثة في أوروبا وانحصر الوجود عندهم في المادة والمعرفة في الحس، انحرفت البوصلة وتغيرت تصورات الإنسان عن الوجود، لكن بقي الدين وحده المستأثر بالجواب عن أسئلة الغيب والغاية بما تلقاه من الخبر الصادق.

حتى نهاية القرن الثامن عشر أو قبلها بقليل كان العقل والعلم والعالم متمثلا في الأمم والفلسفات الكبرى على هذه الأرض تقر بوجود الخالق وأنه حي قيوم وتؤمن أن الفلاح في الدنيا في الإيمان والعبادة، وعمارة الأرض وتزكية النفس ومحاربة الشر وإعلاء قيم الخير، لكن مع بدايات عصر النهضة وثورة الإصلاح اللوثرية بدأت الفجوة بين العالم الغربي والكنيسة تزداد شيئا فشيئا، إذ تدخل القساوسة والرهبان في الحياة السياسة وأيدوا الملوك، وساندوا الإقطاع، واحتكروا تفسير النصوص، وباعوا للناس الغفران والخلاص بالقناطير المقنطرة من الأموال ، ثم كانت الفجوة الكبرى لما وقفوا أمام العلم والبحث في الكون وظهرت محاكم التفتيش التي تركت في الوعي المسيحي الأوروبي أثرا بالغ السوء على العامة والعلم والعلماء.

فحقيقة الأمر أن النزاع كان بين رجال العلم ورجال الدين، وليس بين العلم التجريبي والدين أو العقل والدين، ثم كانت الاكتشافات العلمية المتتالية لقوانين الحركة والجاذبية لنيوتن ولابلاس وغيرها التي أوحت للعلماء بالقدرة على فهم الكون ووصفه -لا تفسيره- وفهم الواقع كما هو في نفس الأمر، بدأ العقل الجمعي في أوروبا في ذلك الوقت يميل إلى الحتمية، وكانت فكرة مهيبة ومرعبة –كما يقول ول ديورانت في قصة الحضارة- أن الكون آلة محكوم عليها أن تستمر وفقا لرسم بياني لا يتغير، وكان لها أثرا بالغا في تقويض اللاهوت المسيحي وإضعافه في ذلك الوقت، فضعفت عقيدة ” القيومية” وبدا لهم أن الله قد خلق العالم كله ثم تركه يعمل بقوانين صارمة.

في نهاية القرن التاسع عشر تزايدت شيئا فشيئا تقديم قراءات أنثربولوجية وعلمية للدين، قدم المستشرق الألماني “فلهاوسن” نظريته الخاصة بالفرضية الوثائقية في كتابه الذي أثار ضجة عارمة “تاريخ إسرائيل” ، حيث قدم أدلة مقنعة بأن أسفار موسى الخمسة لم تكتب إلا بعد مضي مدة طويلة على الأحداث الواردة فيها، وأنها لم تصنع في شكلها النهائي المعروف الآن إلا في عصر (عزرا) أي بعد ألف سنة تقريبا من وفاة نبي الله موسى، فأحيط الكتاب المقدس بالشك ولم يعد هو النص المعصوم الموحى به، ثم قدم كارل ماركس نظريته التي ترى في الدين مظهرا من مظاهر الهروب من حقائق الاستغلال الاقتصادي، ثم جاء فرويد وقال إن الدين مجرد وهم نشأ بسبب رغبات الإنسان الممنوع تحققها بسبب اشتراطات المجتمع على الفرد، وجاء دوركايم فقدم فرضا أن الدين هو العامل المسئول عن التنظيم الاجتماعي في المجتمع البدائي ، ويمكننا الاستعاضة عن الدين في المجتمع الحديث بالقانون والعلم، وطرح ماكس فايبر رؤيته للدين باعتباره الباعث على القيم وأخلاق العمل في المجتمعات الصناعية الجديدة التي كانت أساس ظهور النظام الرأسمالي.

كل هذه الأطروحات والرؤى الجديدة للدين انطلقت بوصفها مشروع متكامل يدعي الإحاطة بمظاهر الوجود الإنساني، لكنها لم تنطلق من نقد للدين من خلال متونه ونصوصه وأدلة ثبوته وتقديمه لإجابات لأسئلة الوجود الكبرى، بل انطلقت من أثر الدين في الشأن العام وعلاقته بالفرد ومسيرة الاجتماع البشري، ولذلك يحق لنا بكل صراحة أن نقبل أو نرفض هذه الأطروحات التفسيرية لأثر الدين في الحياة، وبتفسير الدين علميا وثقافيا من دون أن نسلم أن هذا المشروع في طياته يحمل نقدا موجها للدين في ذاته خاصة الدين الإسلامي.

إننا كمسلمين وإن كنا فقدنا القوة المادية في هذا العصر، وظهر تراجعنا الحضاري واضحا إلا أننا لم نفقد قوة الدليل على العقائد الدينية وتصوراتنا حول أسئلة الغاية والوجود، كما أننا لم نمر في تاريخنا وحضارتنا بهذا الصراع بين العلم والدين كما حدث في أوروبا بين الكنيسة وأساطين العلوم التجريبية، بل كان العلم التجريبي والدين يسيران جنبا إلى جنب؛ إذ أمر الله عباده بالنظر في الكون، واعتبر المسلمون هذا العالم هو كتاب الله المنظور، فكانت نقطة الانطلاق في التعرف على الله عند علماء الكلام المسلمين بادئة من النظر في هذا العالم، ومعرفة صفاته وخصائصه، وكان كثير من المتكلمين على دراية عظيمة بالطبيعيات والطب والهندسة وغيرها، فقامت لدينا حضارة عظيمة، مؤيدة بنور الوحي، وقيم الشرع، وغايتها عمارة الأرض وتزكية النفس، والمطلوب اليوم من الأجيال الجديدة من المؤمنين أن تنطلق في حياتها من نفس التصورات التي جاء بها القرآن عن الله واليوم الآخر ونظرتنا كمسلمين إلى الهدف من رحلة الحياة في هذه الدنيا، وهي أنها رحلة للوصول إلى الله عبر الاستخلاف في هذه الأرض بما أمرنا الله به من معرفة به، وعمران لأرضه، ومحبة لخلقه، وإنقاذ للحيارى الذين غابت عنهم معاني الدين وهداية الوحي.

قم بتقييم المحتوي